الشوكاني.. فقيه اليمن

قدم للمكتبة الإسلامية مؤلفات قيمة في مختلف العلوم والمعارف والحديث والفقه.

أ.د. عبدالكريم بن صنيتان العمري
الجامعة الإسلامية - المدينة المنورة

ايعد محمد بن علي الشوكاني، رحمه الله تعالى، واحدًا من أبرز العلماء الذين ظهروا في أواخر القرن الثاني عشر الهجري. فقد ولد في يوم الإثنين 28/11/1173هـ, وبدأ مرحلة العلم والتعلم، ونشر العلوم الإسلامية، حتى أصبح علمًا من الأعلام الذين ذاع صيتهم، وانتشرت علومهم، حتى احتل منزلة مرموقة، ومكانة عالية في الإفتاء، والتدريس، والتصنيف، واستمر حتى منتصف القرن الثالث عشر, فقد توفي في شهر جمادى الآخرة سنة 1250هـ، لذلك استحق إعجاب معاصريه ومن بعدهم بشخصيته الفذة، فاهتم به المؤرخون والباحثون، ودرسوا حياته، وترجموا له في كتبهم، مع غيره من مشاهير العلماء، بل أفرد بعضهم دراسة خاصة، ومؤلفًا مستقلاً للحديث عن شخصيته، وحياته العلمية.
نبغ الشوكاني, وترعرع في بيت علم عريق، فهو من أسرة عرفت بالنجابة، وكان لها في ذلك منزلة كبيرة، فمنها العلماء والفقهاء، والدعاة والأدباء، وللكثير من أبنائها أياد طولى في الإصلاح والإفتاء والتدريس.
وقد درس دراسة واسعة، واطَّلع اطلاعًا يندر أن يحيط به غيره، وأعانته الثقافة الواسعة والعميقة، وذكاؤه الخارق، إلى جانب إتقانه للحديث الشريف وعلومه، على الاتجاه وجهة اجتهادية، وخلع ربقة التقليد، وهو دون الثلاثين, وصار علمًا من أعلام الاجتهاد، ومن أكبر الدعاة إلى ترك التقليد، وأخذ الأحكام اجتهادًا من الكتاب والسنة. وقد أحسَّ بوطأة الجمود، وجناية التقليد الذي ران على الأمة الإسلامية من بعد القرن الرابع الهجري، وأثر ذلك كله في زعزعة العقيدة الإسلامية في نفوس بعض الناس، واعتناق البدع والاعتقاد في الخرافات، وشيوعها، وتحلل بعض الناس من التعاليم الدينية، وانكبابهم على الموبقات والمنكرات، ما جعله يشرع قلمه ولسانه في وجه الجمود، والتقليد، فيعمل جاهدًا على محاولة تغيير هذه الأوضاع، وتطهير تلك العقائد من أدران الشرك والخزعبلات.
وعلى الرغم من أن الشوكاني، رحمه الله، كان يشغل نهاره ومعظم ليله في الإفتاء، والتدريس، وفض المنازعات، وفصل الخصومات بين الناس في مجلس القضاء، فإن ذلك كلَّه لم يحل بينه وبين الانخراط في ميدان التأليف، والخوض في غمار التصنيف، فقدَّم للمكتبة الإسلامية العشرات من مؤلفاته القيِّمة، ومصنفاته النيِّرة، وترك وراءه العشراتِ من التآليف المفيدة، والتحريرات السديدة، والتصانيف المليئة بالعلوم المجيدة، الدالة على غزارة علمه، وتبحره في شتى الفنون والمعارف، فكتب في التفسير، والحديث، والعقيدة، والفقه، واللغة مصنفاتٍ تدل على سعة اطلاعه، وغزارة معلوماته، وطول باعه في هذا الميدان الفسيح، حيث جاوزت مؤلفاته المئة مؤلف في مختلف العلوم والفنون. وقد ذكر كثيرًا منها في كتابه (البدر الطالع)، وترك ذكر الكثير منها. ومن أشهر مؤلفاته, كتابه (فتح القدير) في تفسير القرآن الكريم, ونيل الأوطار, والبحث المسفر عن تحريم كل مسكر ومفتر.
ولمكانته العلمية أشاد من بعده بسيرته، فسجلوا مناقبه، وخصاله الحميدة، وسطروها في كتبهم.
يقول عنه عصريُّه المؤرخ عبدالرحمن الأهدل:
ولقد منحه الله، تعالى، من بحر فضل كرمه الواسع، ثلاثة أمور لا أعلم أنها في هذا الزمان الأخير جمعت لغيره:
الأول: سعة التبحر في العلوم على اختلاف أجناسها وأنواعها وأصنافها.
الثاني: سعة التلاميذ المحققين، والنبلاء المدققين، أولي الأفهام الخارقة، والفضائل الفائقة.
الثالث: سعة التأليفات المحررة، والرسائل والجوابات المحبَّرة، التي سَامَى في كثرتها الجهابذة الفحول، وبلغ من تنقيحها وتحقيقها كل غاية وسول, فرحمه الله رحمة واسعة، وأجزل مثوبته. .